هل تساءلتم يوما كيف يمكن للخير المطلق والشر المؤلم أن يتعايشا؟ هذه الحلقة ليست للمترددين. إنها دعوة شجاعة للنظر مباشرة في وجه أصعب سؤال وجودي. لن نكتفي باستعراض الأجوبة التقليدية، بل سنضعها تحت المجهر ونسمح لصوت النقد والغضب بأن يأخذ حقه. سنستلهم من تساؤلات أيوب في التوراة، وصرخات داود في المزامير، ومفهوم الأمانة في القرآن. سنتوقف عند فكرة “الإرادة الحرة” ونطرح السؤال بوقاحة: هل تبرر حرية الاختيار ألم طفل بريء؟ ثم سنغوص في فكرة “صقل الأرواح” ونتساءل بمرارة: هل الكوارث الكبرى هي حقا ورش عمل إلهية؟ هذه رحلة فكرية وروحية لا تخاف الظلام، لأنها تثق بأن النور الحقيقي لا يظهر إلا فيه.
المعضلة الإلهية: حين يصرخ الإيمان “لماذا؟”
هل سبق ونظرتم إلى هذا العالم، إلى عنوان خبر مفجع، أو إلى مأساة شخصية، وسألتم أنفسكم ببساطة… “ليش؟”. لماذا تحدث الأشياء الفظيعة، خاصة للناس الطيبين؟ باللهجة المصرية “إشمعنى؟”، أو باللبنانية “ليش هيك؟”، أو بالخليجية “ويش السبب؟”. إنه سؤال يتردد صداه في لحظات الحزن الصامتة وفي ضجيج الأزمات العالمية الصاخبة.
وهذا السؤال ليس كفرا، بل هو في صميم الإيمان الحي. نجده في صرخة أيوب في التوراة، وفي مزامير داوود التي تسأل الله عن سبب صمته. طرح هذا السؤال ليس علامة على ضعف الإيمان، بل هو علامة على عقل متوقد وقلب حي يبحث عن المعنى بصدق. سؤال قادر على أن يهز أركان الإيمان، أو يبنيها أقوى مما كانت. هذا السؤال بعينه يقبع في قلب واحد من أعمق وأخلد التحديات الفلسفية: معضلة الشر. إنه لغز أرق مضاجع اللاهوتيين والفلاسفة والناس العاديين، أمثالي وأمثالكم، لآلاف السنين، في محاولة للتوفيق بين صورة الخالق الكامل المحب، والواقع المليء بالألم والنقص الذي نعيشه.
الفيلسوف الإغريقي الذي أشعل الفتيل
لنعد بالزمن إلى الوراء. بعيدا جدا. إلى اليونان القديمة. تخيلوا معي فيلسوفا اسمه أبيقور، يجلس في حديقته يتأمل طبيعة السعادة. لكنه لم يستطع أن يتجاهل الوجه الآخر للعملة: المعاناة. وقد صاغ المشكلة بشكل محكم ومدمر لدرجة أننا لا نزال نستخدم منطقه حتى اليوم. تعرف هذه المعادلة بمفارقة أبيقور أو “الثلاثية المستحيلة”، وتقول شيئا كهذا:
هل الله راغب في منع الشر، ولكنه عاجز؟ إذن هو ليس قديرا.
هل هو قادر، ولكنه غير راغب؟ إذن هو حاقد.
هل هو قادر وراغب معا؟ فمن أين أتى الشر إذن؟
هل هو ليس قادرا ولا راغبا؟ فلماذا ندعوه إلها أصلا؟
كأن أبيقور ألقى قنبلة فلسفية في وجه التاريخ، ولا يزال صداها يتردد بعد أكثر من ألفي عام. لقد أقام، بشكل أساسي، محكمة كونية. في قفص الاتهام، يجلس المفهوم التقليدي للإله — كائن كلي القدرة، كلي المعرفة، وكلي الخير. وما هو دليل الإدانة ضد هذا الكائن؟ حسنا، فقط ألقوا نظرة حولكم. زلازل، أمراض، حروب، قسوة، قلوب مكسورة. الادعاء العام، بقيادة أبيقور، يعلن أن القضية واضحة. وجود الشر يبدو الدليل القاطع على أن مثل هذا الإله لا يمكن أن يوجد. كأنها حركة “كش ملك” في الشطرنج الفلسفي… أو هكذا يبدو.
دخول قاعة المحكمة الكونية: التبريرات الإلهية
طبعا، لا يمكن ترك تحد كهذا معلقا في الهواء. على مر القرون، تقدم بعض ألمع العقول في التاريخ ليلعبوا دور فريق الدفاع عن الله. تعرف حججهم باسم “الثيوديسيا” (Theodicy) — مصطلح فخم آت من الكلمتين اليونانيتين “ثيوس” (إله) و”ديكيه” (عدالة). الثيوديسيا هي محاولة لتبرير الذات الإلهية، لإظهار كيف أن وجود الله ووجود الشر معا أمر منطقي وممكن.
لا تظنوا أن هذا مجرد نقاش أكاديمي جاف. بل تخيلوها محاكمة عالية المخاطر تدور حول طبيعة كوننا. الحكم النهائي سيؤثر على كل شيء: على إحساسنا بالغاية من وجودنا، على استجابتنا للمعاناة، وعلى المعنى الذي نجده في حياتنا. لذلك، دعونا نستمع إلى أول محاميين كبيرين في فريق الدفاع.
محامي الدفاع الأول: أوغسطينوس وحجة الله الدامغة
أول من يعتلي المنصة هو أحد عمالقة الفلسفة المسيحية، القديس أوغسطينوس. عاش في القرنين الرابع والخامس، وقت اضطراب عظيم مع تفكك الإمبراطورية الرومانية. لقد رأى الكثير من الشر، وفكر فيه… وفكر كثيرا. دفاعه مؤثر لدرجة أنه أصبح الإجابة الافتراضية لدى الكثيرين. إنه “دفاع الإرادة الحرة”.
حجة أوغسطينوس أنيقة وبليغة. يبدأ بالقول إن الله، بخيره المطلق، خلق عالما كاملا. لكن أعظم هبة منحها لأكثر مخلوقاته تعقيدا — الملائكة والبشر — كانت الإرادة الحرة. القدرة على الاختيار. لماذا؟ لأن الحب الذي لا يأتي عن اختيار ليس حبا حقيقيا. والطاعة التي ليست طوعية ليست فضيلة حقيقية. إن كل ما يعطي للحياة قيمتها السامية -الحب، الوفاء، التضحية- يفقد معناه إذا لم يكن نابعا من اختيار حر. عالم الروبوتات هو عالم بلا معنى. لذلك، وهب الله سبحانه وتعالى أعظم هبة وأخطرها: الحرية. وهذا يتقاطع بشكل مذهل مع مفهوم “الأمانة” في القرآن الكريم. في سورة الأحزاب، يقول تعالى: “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا”. الكثير من المفسرين يرون أن هذه “الأمانة” هي التكليف، هي حرية الاختيار والمسؤولية. لقد كان شرفا عظيما، ولكنه كان أيضا مسؤولية مرعبة.
إذن، من أين أتى الشر؟ الحركة العبقرية لدى أوغسطينوس هي أن يجادل بأن الشر ليس “شيئا” قائما بذاته. ليس مادة أو قوة خلقها الله. لا يمكنك أن تملأ دلوا بالشر. بدلا من ذلك، الشر هو “عدم” (Privation). إنه “غياب الخير”، أو فساد للخير الذي كان موجودا أصلا. والشر، في هذا المنظور، ليس خلقا إلهيا، بل هو خيانة لتلك الأمانة، هو ذلك “الظلم والجهل” الذي يقع فيه الإنسان حين يسيء استخدام حريته.
فكروا في الأمر هكذا: ما هو الظلام؟ الظلام ليس “شيئا” بحد ذاته؛ إنه ببساطة غياب النور. ما هو الثقب في قطعة قماش؟ إنه ليس مصنوعا من “مادة الثقوب” الخاصة؛ إنه غياب القماش. ما هو المرض؟ إنه غياب الصحة. بالنسبة لأوغسطينوس، الشر هو نفس الشيء. إنه ما يحدث عندما يبتعد كائن حر عن الخير المطلق، أي عن الله. إنه جرح في نسيج الخلق، ظل ألقته خياراتنا. اللوم على وجود الشر، إذن، يقع بشكل كامل على عاتق المخلوقات — ملائكة سقطت، وبشر عصوا — لا على الخالق. إنها حجة قوية ومرتبة. الله بريء. هل أغلقت القضية؟
الثقب في الحجة (وهو ليس ثقب قماش)
حسنا، لا تتسرعوا. الادعاء لديه بعض الأسئلة الإضافية. دفاع الإرادة الحرة ينجح بشكل جيد في تفسير ما نسميه “الشر الأخلاقي” — الأشياء السيئة التي يفعلها البشر ببعضهم البعض. القتل، السرقة، الخيانة… يمكنك إرجاع كل ذلك إلى اختيار شخص ما.
ولكن، ماذا عن “الشر الطبيعي”؟ ماذا عن زلزال لشبونة عام ١٧٥٥ الذي قتل عشرات الآلاف في يوم مقدس بينما كانوا في الكنائس؟ ماذا عن التسونامي الذي جرف مدنا بأكملها؟ ماذا عن طفل يولد بمرض وراثي مؤلم ومميت؟ من اختار ذلك؟ لا يمكنك أن تلقي اللوم فيه على الإرادة الحرة للبشر. هذه، كما نقول في بلاد الشام، “شغلة ما بتدخل العقل”.
أوغسطينوس كان لديه جواب لهذا أيضا، مع أن الكثيرين اليوم يجدونه أقل إقناعا. لقد جادل بأن الخليقة كلها فسدت بسبب “السقوط الأول” لآدم وحواء. اختيارهما لم يؤثر عليهما فحسب؛ بل ألقى بالعالم الطبيعي كله في حالة من الفوضى، مدخلا عليه الموت والتحلل والكوارث. لذلك، حتى الشر الطبيعي هو نتيجة غير مباشرة للشر الأخلاقي.
بالنسبة لكثيرين، هذا التفسير يبدو متكلفا. إنه يطلب منا قبول قصة لاهوتية محددة جدا. والأهم من ذلك، أنه قد يكون غير مرض على الإطلاق على المستوى العاطفي. أن تخبر والدي طفل يعاني من اللوكيميا أن ألم طفلهما هو صدى بعيد لخطيئة جد أسطوري… حسنا، هذا لا يفشل فقط في التعزية؛ بل قد يشعرهم بأنه إهانة لحزنهم. الأناقة المنطقية للحجة تتحطم أمام الحافة الحادة والخام للمعاناة الحقيقية.
محامي الدفاع الثاني: صالة إيريناوس لـ “صياغة الروح”
إذن، هيئة المحلفين لم تصل إلى قرار بعد. دعونا نستدعي شاهدنا الثاني. اسمه إيريناوس، أسقف عاش حتى قبل أوغسطينوس، في القرن الثاني. وهو يقدم دفاعا مختلفا جذريا، وبالنسبة لكثير من الناس اليوم، أكثر قبولا وتأثيرا. يطلق عليه عادة “ثيوديسيا صنع الروح” (Soul-Making Theodicy).
بينما رأى أوغسطينوس العالم كخلق كامل تحطم، رأى إيريناوس العالم كخلق “غير مكتمل”. نحن لم نخلق ككائنات كاملة ثم سقطنا. بل خلقنا ككائنات غير ناضجة مع “إمكانية” الوصول إلى الكمال، ووضعنا في عالم مصمم لمساعدتنا على النمو لتحقيق هذا الكمال.
تخيلوا العالم ليس كجنة مفقودة، بل كنوع من صالة الألعاب الرياضية الكونية أو معسكر تدريبي روحي. التحديات، الصراعات، المصاعب، حتى الشرور التي نواجهها، هي الأثقال التي نحتاج إلى رفعها لبناء عضلاتنا الروحية. كما يقول إخواننا في مصر، “اللي ما يتعبش، ما يلاقيش”. أنت لا تطور الشجاعة بدون مواجهة الخوف. لا تنمي التعاطف بدون أن تشهد المعاناة. لا تكتسب المرونة والصلابة النفسية (resilience) بدون التغلب على العقبات.
وهذا يتناغم بقوة مع مفهوم “الابتلاء” في الإسلام. فالقرآن الكريم يؤكد في مواضع عدة أن الإيمان لا بد أن يمتحن. يقول تعالى في سورة البقرة: “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين”. الابتلاء هنا ليس عقابا، بل هو كشف واختبار. هو الفرصة التي تظهر فيها حقيقة معادن الناس، وتتميز فيها النفوس الصابرة الشاكرة من النفوس الساخطة الجازعة. الألم، في هذا المنظور، يصبح له وظيفة تربوية، فهو الأداة التي تنحت شخصياتنا وتصقل أرواحنا.
في هذه الرؤية، لم يعد الله أبا مهملا ترك أولاده يحطمون لعبتهم الكاملة. بل هو أشبه بمدرب حكيم ومحب يعلم أن القوة الحقيقية لا تأتي من حياة الراحة والدعة. هو يسمح للعالم بأن يحتوي على مخاطر حقيقية وفرص حقيقية للفشل لأن هذه هي البيئة الوحيدة التي يمكننا فيها أن ننمو بحرية لنصبح على “صورة الله” — كائنات من حب عميق وحكمة ورحمة. هذا المنظور يغير كل شيء. الشر لم يعد مجرد خلل عبثي في النظام، بل أعيد توظيفه ليصبح جزءا من آلية تطورنا. الألم حقيقي، والمعاناة رهيبة، لكنها ليست بلا معنى. إنها الحصى الذي يصقل الروح. إنها النار التي تصهر فولاذ شخصياتنا. إنها رؤية مليئة بالأمل وتتطلع إلى المستقبل.
ولكن، هل يستحق التمرين كل هذا الألم؟
فكرة “صنع الروح” هذه تبدو جيدة، أليس كذلك؟ تشعرنا بالفاعلية والغاية. لكن مرة أخرى، الادعاء ليس راضيا. إنه يشير إلى ما يسميه الفلاسفة “الشر المجاني” (gratuitous evil)، أو كما نقول بالعامية العراقية، “شر ما له داعي”.
حسنا، ربما بعض المعاناة يبني الشخصية. قد تعلمك خسارة الوظيفة المرونة. قد يعلمك الانفصال العاطفي الصعب عن احتياجاتك. ولكن، أي هدف لصقل الروح يخدم باحتراق غزال صغير حتى الموت، مرتعبا وحيدا، في حريق غابة أشعله البرق؟ أي درس أخلاقي يلقن لرضيع يموت من الجوع؟
إن حجم وفظاعة بعض أنواع المعاناة يبدوان أقوى من أي درس محتمل يمكن أن نتعلمه. الهولوكوست. الإبادة الجماعية في رواندا. العذاب الصامت الخفي لشخص واحد يعذب في قبو. الإشارة إلى أن كل هذه الأمور هي مجرد جزء من برنامج الله الكوني لبناء الشخصية يمكن أن يبدو أمرا وحشيا. وهنا نتذكر شاعرنا الفيلسوف أبا العلاء المعري ونظرته التشاؤمية للحياة، حين قال في وصف الظلم الكوني: “خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد”. إن الشر الزائد عن الحد يجعل الله يبدو أقل شبها بمدرب محب، وأكثر شبها بمحرك دمى قاس، مستعد لإنزال عذاب لا يوصف من أجل هدف بعيد ومجرد.
حكمة “الاحتجاب”: لماذا لا يكون الجواب واضحا؟
هذه الحيرة تقودنا إلى سؤال جديد وعميق: إذا كانت هناك حكمة عليا وراء كل هذا، فلماذا هي ليست واضحة؟ لماذا هذا الصمت الإلهي الظاهري؟ لماذا لا يتدخل الله ليشرح لنا خطته؟ هذا ما يسميه الفلاسفة “مشكلة الغياب أو الاحتجاب الإلهي”.
ولعل الجواب يكمن في السؤال نفسه. ربما يكون هذا “الغموض” ضروريا. فلو كانت خطة الله وحكمته واضحة وضوح الشمس، ولو كان تدخله مباشرا ومستمرا، فأين سيكون معنى الإيمان؟ الإيمان، بحكم تعريفه، هو ثقة وتسليم في غياب الدليل المادي القاطع. لو كان الدليل قاطعا، لما عاد الأمر إيمانا، بل أصبح معرفة قسرية. ربما تكون المسافة التي نشعر بها بيننا وبين الله هي المساحة التي تمنح لحريتنا قيمتها، ولإيماننا معناه. ففي هذا الفضاء من عدم اليقين، يصبح اختيارنا للثقة بالله فعلا ذا معنى عميق.
لنخرج من المحكمة للحظة
وهنا نصطدم بجدار. كلا هذين الدفاعين العبقريين، دفاع الإرادة الحرة وثيوديسيا صنع الروح، يقدمان طرقا قوية للتفكير. لقد جلبا الراحة والاستقرار الفكري للملايين. ولكن بالنسبة لكثيرين، فإنهما يقصران عن مواجهة الأمثلة الأكثر تطرفا للشر والمعاناة.
لذلك ربما… ربما كانت الفرضية الأساسية خاطئة. ربما محاولة “حل” معضلة الشر كمعادلة رياضية هي المنهج الخاطئ أصلا.
ماذا لو خرجنا من الإطار اللاهوتي لثانية؟ من منظور علماني بحت، ما نسميه “الشر” ليس مشكلة ميتافيزيقية. الزلزال هو مجرد حركة للصفائح التكتونية، عملية جيولوجية محايدة أخلاقيا. السرطان هو مجرد انقسام خلوي خارج عن السيطرة، خطأ بيولوجي. الأسد الذي يقتل الحمار الوحشي ليس شريرا؛ إنه فقط جائع. الطبيعة غير مبالية. إنها تعمل وفقا لقوانين الفيزياء والبيولوجيا، لا الأخلاق.
هذا لا يزيل الألم، لكنه يعيد صياغة السؤال. فبدلا من أن نسأل “لماذا يسمح الله بهذا؟”، يصير السؤال: “بالنظر إلى واقعنا البيولوجي وحيادية الكون، كيف يمكننا بناء أنظمة تعزز الرحمة وتقلل المعاناة؟”. إنها نقلة نوعية من التفسير إلى الفعل.
فن القطع المكسورة وسر “الجبار”
ولكن دعونا لا نترك الأمر عند هذا الحد، في كون بارد وغير مبال. لأنه سواء كنتم تؤمنون بخطة إلهية أو بكون عشوائي، فإننا نجد أنفسنا أمام نفس الحقيقة: الحياة مزيج من الجمال الخلاب والألم الذي يفطر القلب. السؤال لنا، نحن البشر الأحياء الذين نقف في المنتصف، هو: كيف نستجيب؟
هناك فن ياباني جميل يسمى “كينتسوجي” (Kintsugi). عندما تنكسر قطعة فخار، فإنهم لا يرمونها. بل يعيدون تجميعها بدقة باستخدام طلاء ممزوج بمسحوق الذهب. الفلسفة وراء ذلك هي أن القطعة تصبح “أجمل لأنها كانت مكسورة”. الشروخ ليست شيئا يجب إخفاؤه؛ إنها جزء من تاريخ القطعة، ويتم إظهارها بالذهب.
ربما هذه هي أقوى استجابة لمعضلة الشر. ربما لا يتعلق الأمر بإيجاد تفسير كامل غير مكسور لسبب تحطم الإناء. ربما يتعلق بما نفعله بالقطع المحطمة.
وهل لدينا في ثقافتنا ما يشبه هذا؟ بالطبع. بل لدينا ما هو أعمق وأجمل. نتذكر الحديث القدسي الذي يقول فيه الله عز وجل: “أنا عند المنكسرة قلوبهم”. الجمال، القرب الإلهي، الحقيقة… كلها توجد عند الانكسار. ولنتأمل في اسم الله “الجبار”. هذا الاسم لا يعني فقط القوة والقهر، بل أصله اللغوي يأتي من “الجبر”، كجبر العظام المكسورة. ومن نفس الجذر يأتي علم “الجبر” في الرياضيات، وهو علم إعادة التوازن والانسجام إلى المعادلات. فالله “الجبار” هو الذي يجبر كسر عباده، ويعيد الانسجام إلى الوجود.
وهنا يأتي دورنا كـ”خلفاء في الأرض”. أن نكون “جبارين” بالمعنى الإلهي للكلمة. دورنا هو أن نمارس “الجبر” في العالم. كل فعل رحمة هو “جبر”. كل كلمة مواساة هي “جبر”. كل محاولة لإطعام جائع، أو تعليم جاهل، أو نصرة مظلوم، أو حتى الاستماع لصديق متألم، هي فعل من أفعال “الجبر”. نحن بذلك لا نصبح مجرد بشر صالحين، بل نصبح قنوات تتجلى من خلالها صفة “الجبار” في العالم.
حكمكم أنتم، كونكم أنتم
وهكذا نعود إلى حيث بدأنا، ننظر إلى هذا العالم الجميل، الرهيب، المحير. لم نقم بـ “حل” معضلة الشر. وأعتقد أن أي شخص يدعي أنه فعل ذلك فهو يحاول أن يبيعكم وهما. إنها ربما مشكلة لم تخلق لتحل، بل لتعاش.
إن الإيمان الحقيقي لا يولد من الأجوبة الجاهزة، بل يولد من رحم الأسئلة الكبرى، وينمو في تربة الحيرة، ويزهر في أرض العمل الصالح. وكما أننا لا نرى جمال النجوم إلا في ظلمة الليل، فربما لا يمكننا أن نرى بعض أعمق الحقائق الروحية إلا على خلفية هذا العالم المعقد والمؤلم.
الإجابة هي تلك التي تبنونها لأنفسكم، يوما بعد يوم، بأفكاركم، ومعتقداتكم، والأهم من ذلك، بأفعالكم. كيف تختارون أن تعيشوا في مواجهة المعاناة هو حكمكم الشخصي. استجابتكم لانكسار العالم هي تبريركم الإلهي الخاص، الحي، النابض. إنه “الكينتسوجي” الخاص بكم.
إذن، أين تقفون وتقفن في قاعة هذه المحكمة الكونية؟ هل تجدون الراحة في منطق الإرادة الحرة، أو الإلهام في فكرة صقل الروح؟ أم تعتقدون أن المسؤولية تقع بالكامل علينا لرأب الصدع؟ والآن، أدعوكم مرة أخرى، ليس لتقديم إجابة، بل لمشاركة “موقفكم”. كيف ستحولون حيرتكم إلى فعل “جبر” في حياتكم اليومية؟ وكيف يمكن لهذا السؤال، الذي بدأ كصخرة في طريق إيمانكم، أن يصبح هو نفسه حجر الزاوية في بناء إيمان أكثر نضجا وقوة ورحمة؟
شاركوني وشاركنني آراءكم وتأملاتكم في التعليقات. ففي هذا الحوار، نجبر خواطر بعضنا البعض، ونضيء الطريق لبعضنا البعض.