اختر صفحة

هل وجدتم أنفسكم مرة في لحظة هدوء تام، ربما وأنتم تحدقون من نافذة في يوم ممطر، أو تقودون سياراتكم ليلا في طريق خال، وفجأة، تعود بكم الذاكرة إلى صورة قديمة واضحة جدا؟ صورة لكم، ولكن في سن أصغر. تلك النسخة المرتبكة، المليئة بالأمل، الخائفة، والتي لا تعرف شيئا عن الدنيا. وفي تلك اللحظة، يطفو سؤال من أعماقكم: لو أنك تستطيع أن تمد يدك عبر الزمن، لثانية واحدة فقط، وتهمس بشيء في أذن تلك النسخة… فماذا كنت ستقول؟ هذه الفكرة، فكرة أن تكون المرشد لنسختك الأصغر، هي أكثر من مجرد تسلية ذهنية. إنها حفريات عميقة في حياتنا نحن، مقياس للمسافة التي قطعناها، وخريطة للدروس المنقوشة في كياننا.

الزر الكوني للبداية من جديد… الذي نتمناه جميعا في السر

لنكن صادقين، أول الأشياء التي تقفز إلى أذهاننا عادة هي الأمور العملية. “أرجوك، اشتر أسهم تلك الشركه في عام كذا…” أو “اشتر تلك القطعة من الأرض، سيتضاعف سعرها.” وفي أحيان أخرى تكون النصيحة “هذه التسريحة التي تفكرين فيها… ‘الكاريه المنفوش’ مثلا… صدقيني، هي خيانة لذوقك المستقبلي. ابتعدي عن المقص!”. نفكر في تحذير أنفسنا من تلك الشقة الأولى بحمامها الذي كانت تفوح منه رائحة الرطوبة دائما، أو أن نقول لأنفسنا أن نبدأ بالادخار للتقاعد من أول راتب، حتى لو كان مبلغا بسيطا.

ولكن، ما أن تتلاشى هذه النصائح السهلة التي تحلم بالثراء وتجنب الكوارث الجمالية، حتى يظهر شيء أعمق. الهمسة الأكثر شيوعا، تلك التي تدندن تحت سطح أفكارنا جميعا، هي على الأرجح نسخة ما من هذه الجملة: “كل شيء سيكون على ما يرام. أرجوك فقط، توقف عن القلق بهذا الشكل المفرط.” كما نقول في لبنان وسوريا “حاج تاكل هم”. ننظر إلى تلك النسخة الأصغر منا، وكأنها كتلة من الأعصاب المكشوفة والمخاوف، تقلق بشأن الامتحانات، والهفوات الاجتماعية، وما يظنه الآخرون بها، فتنكسر قلوبنا عليها. نود لو نستطيع أن نغطيها ببطانية كونية ونقول لها أن الأمور التي تسرق النوم من عينيها الآن ستصبح يوما ما مجرد حاشية منسية في قصة أعظم بكثير.

ولكن ها هنا سؤال يستحق التمعن: هل الأمر بهذه البساطة؟ هل كل القلق مضيعة للوقت؟ أم أن بعض هذا القلق كان هو الوقود ذاته الذي دفعنا للأمام؟ هل كان ذلك الخوف من الفشل هو ما جعلنا ندرس بجد أكبر، ونحاول بجهد أكبر، وندفع أنفسنا لتجاوز ما كنا نعتقد أنه حدود قدراتنا؟ لو عدنا ومسحنا كل تلك الحواف الخشنة من القلق، هل كنا سنحتفظ بنفس الدافع؟ هل كنا سنكون نفس الشخص؟ إن إرشاد نسختنا الأصغر لا يتعلق فقط بإعطائها “شفرات الغش” للحياة؛ بل يتعلق بفهم الغاية من اللعبة أصلا. ماذا لو لم يكن الهدف هو الحصول على علامة كاملة، بل أن نتعلم كيف نلعب بأوراق فوضوية، وغير متوقعة، ومرعبة أحيانا؟

الإبحار في متاهة القلب

آه… أمور القلب وما أدراك ما أمور القلب. إن كان هناك مجال واحد نتمنى أن نرسل فيه دليلا مفصلا ومذيلا بالحواشي إلى الماضي، فسيكون هذا المجال. كنا سنقول لأنفسنا: “ذلك الشخص الذي يجعلك تشعر بأنك صغير وقليل القيمة؟ هو ليس الشمس، وأنت لست مجبرا على الدوران في فلك دفئه المتقطع. امض في سبيلك”. كنا سنود لو نحذر قلوبنا الغضة الهشة من تحطمها القادم، من تجربة الانفصال تلك التي ستبدو كالموت، من ذلك “الاختفاء المفاجئ” الذي سيتركنا نحدق في هاتف صامت لأسابيع.

كنا نرغب في أن نمنح أنفسنا هدية المنظور المستقبلي، أن نقول: “هذا الألم يبدو لانهائيا الآن. تشعر وكأنه ابتلع السماء. لكني أقسم لك، من مكان في المستقبل حيث تشرق الشمس مجددا، أنه ألم محدود. هذا ليس قدرك الأبدي”. نتألم ونحن نخبر نسختنا الشابة أن قيمتها لا تحددها محبة الآخرين لها. قيمتك جوهرية، أصيلة، وغير قابلة للتفاوض أو التقييم.

ولكن بعد ذلك، تتسلل المفارقة إلى المشهد، أليس كذلك؟ تلك الصدمة العاطفية الأولى… ماذا علمتك؟ على الأرجح أنها علمتك الصلابة النفسية، ما يطلق عليه أهل مصر “الجمدان”. علمتك ما تحتاجه حقا في شريك حياتك. لقد أفرغتك من داخلك، نعم، ولكنها أفسحت المجال أيضا لحب أعمق وأكثر حكمة لينمو لاحقا. تلك الصداقات التي تحللت بسبب خيانة أو سوء فهم، علمتك قيمة الوفاء، وفن المسامحة، والقوة الهادئة التي تكمن في صحبتك لنفسك.

إذن لو عدت للوراء، هل كنت حقا ستمنع حدوث ذلك الألم؟ هل كنت ستغير مسار نسختك الأصغر بعيدا عن العلاقة التي تعرف يقينا أنها ستنتهي بالدموع، حتى لو كانت هذه العلاقة هي البوتقة التي ستصقل شخصيتها؟ إنها معضلة رهيبة وجميلة. نريد أن نكون كرجال الإسعاف، نسرع لمنع الجرح. ولكن أحيانا، الندوب تصبح خرائط. ترينا أين كنا وترشدنا إلى حيث نحتاج أن نذهب. ربما النصيحة ليست “لا تقع في حبه/حبها”. ربما هي: “افعل. دع قلبك ينكسر وينفتح على مصراعيه. وبعدها، وأنت ملقى على الأرض قطعا مبعثرة، اعلم هذا: أنت تملك كل شيء بداخلك لتعيد جمع شتات نفسك، أقوى وأجمل من ذي قبل. أنت بطل قصتك”.

أسطورة الخطة المحكمة… وجمال الانعطافات الفوضوية

هل تذكرون أنفسكم في الثامنة عشرة أو الثانية والعشرين من العمر؟ كان هناك ضغط هائل، أليس كذلك؟ ضغط امتلاك “خطة”. خطة خمسية، خطة لعشر سنوات. كان من المفترض أن تختار تخصصا جامعيا، سيؤدي إلى مهنة، ستؤدي إلى حياة. قدم الأمر على أنه تسلسل خطي منطقي، مثل تسلق سلم.

لو أمكنني الجلوس مع نسختي الأصغر، أعتقد أنني كنت سأضحك فقط من فكرة هذا السلم. كنت سآخذ تلك “الخطة” المرسومة بعناية فائقة وألقي بها في نار الموقد برفق. وكنت سأقول: “اسمع جيدا. حياتك ليست سلما؛ إنها أشبه بساحة ألعاب فسيحة وفوضوية ورائعة. أحيانا ستكون تتسلق لأعلى، وأحيانا ستنزلق لأسفل، وفي بعض الأحيان ستجد نفسك معلقا بالمقلوب، تتساءل ‘كيف وصلت إلى هنا؟’. كل هذا جزء من الرحلة”.

نحن نضع ضغوطا هائلة على نسخنا الشابة لتعرف ما لا يمكن معرفته. نطلب منها أن تختار مسارا واحدا قبل أن تحظى حتى بفرصة لاستكشاف الغابة بأكملها. نخبرها أن أي “تحويلة” أو “لفة” كما يسميها إخواننا في الخليج هي فشل، وأن الطريق الجانبي هو مضيعة للوقت. يا له من كلام فارغ!

النصيحة التي سأقدمها هي: اجمع المهارات، لا الألقاب الوظيفية. اجمع الخبرات، لا الترقيات. قل “نعم” لذلك المشروع الجانبي الغريب. اقبل تلك الوظيفة في مجال لا تعرف عنه شيئا. انتقل للعيش في تلك المدينة التي لا تعرف فيها أحدا. السحر الحقيقي يحدث في هذه الانعطافات. درس الفلسفة ذاك الذي تظنه “عالفاضي” قد يكون هو ما يعلمك كيف تفكر بنقد. تلك الوظيفة البائسة في مطعم قد تكون المكان الذي تتعلم فيه كيف تتحدث مع أي شخص عن أي شيء – وهي مهارة أثمن من أي معادلة في برنامج إكسل.

توقفوا عن التساؤل: “ماذا أريد أن أكون؟” وابدأوا بالتساؤل: “ما الذي يثير فضولي الآن؟” اتبعوا ذلك الفضول. إنه بوصلة أكثر موثوقية من أي خطة خمسية. الهدف ليس الوصول إلى وجهة محددة مسبقا. الهدف هو أن يكون لديك قصة مذهلة لترويها عندما تنظر للخلف. قصة مليئة بالانعطافات الخاطئة التي قادتك إلى أجمل المناظر غير المتوقعة.

ضرورة الندوب… الجميلة والمريعة

هذا على الأرجح هو الجزء الأصعب من الحديث. إنه “الوحش الأخير” في لعبة إرشاد نسختك الأصغر. إنه النظر إلى أكبر أخطائك. تلك اللحظات المخجلة التي تجعلك تنكمش على نفسك حتى اليوم. الأوقات التي كنت فيها أنانيا. الأوقات التي آذيت فيها شخصا تحبه. تجارب الفشل التي شعرت أنها كانت علنية ومهينة. تلك المواقف التي كما يقول إخواننا في العراق “تتمنى الگاع تنشگ وتبلعك”.

غريزتنا الأولى هي محو هذه الذكريات. أن نعطي نسختنا الأصغر ممحاة كونية ونقول لها: “لا تفعلي ذلك. لا تقولي ذلك. لا تكوني ذلك الشخص”. نريد أن نخلق نسخة أنظف وأكثر لمعانا من ماضينا، نسخة أقل… إحراجا. أقل إنسانية.

ولكن هنا تكمن العقدة، السؤال الذي يجلس في قلب هذه التجربة بأكملها: إذا محوت الأخطاء، فهل تمحو معها الدروس أيضا؟ إذا ألغيت الفشل، فهل تلغي معه الصلابة والمناعة النفسية التي نمت في أعقابه؟

فكروا في الفن الياباني الذي يدعى “كينتسوجي” (Kintsugi). عندما تنكسر قطعة من الفخار، فإنهم لا يرمونها. بل يعيدون تجميع قطعها بدقة باستخدام طلاء ممزوج بمسحوق الذهب. الفلسفة وراء ذلك هي أن القطعة تصبح أكثر جمالا لأنها انكسرت. الشقوق ليست شيئا يجب إخفاؤه؛ بل هي جزء من تاريخها، وشهادة على قدرتها على البقاء. هي ما تجعلها فريدة.

حياتنا مثل ذلك تماما. فشلنا، أخطاؤنا، لحظات حماقتنا المطلقة—هي خيوطنا الذهبية. تلك المرة التي فشلت فيها فشلا ذريعا في مشروع ما؟ علمتك التواضع. تلك المرة التي تكلمت فيها بدون تفكير واضطررت للاعتذار؟ علمتك التعاطف. تلك الفترة التي شعرت فيها بالضياع التام؟ علمتك كيف تجد نفسك.

لذا، ربما لا تتعلق النصيحة بالوقاية على الإطلاق. ربما أقوى شيء يمكنك أن تقوله لنسختك الأصغر هو هذا: “سوف تخطئين. وبشكل كبير. سترتكبين أخطاء ستجعل جلدك يقشعر بعد سنوات. ستفشلين. ستسقطين. وفي كل مرة، لن تكون تلك هي النهاية. بل ستكون بداية خيط ذهبي جديد. لا تخشي الانكسار. فهكذا يتسلل النور إلى الداخل. هكذا تصبحين تحفة فنية.”

في مديح “الآن”… تلك اللحظة البسيطة العظيمة

بعد كل هذا الحديث الثقيل عن انكسار القلب والفشل، تبقى هناك نصيحة أخيرة، وقد تكون الأهم على الإطلاق. إنها نصيحة هادئة وصغيرة.

كنت سأقول لنسختي الأصغر أن تنتبه للأشياء الصغيرة. أعلم، أعلم، يبدو الأمر كعبارة على بطاقة معايدة. لكني أعنيها حقا. كنت سأقول: “في هذه اللحظة، أنت مهووسة بالمستقبل. تعيشين في حالة ‘عندما’. عندما أتخرج… عندما أحصل على الوظيفة… عندما أقع في الحب… عندما أملك المزيد من المال… أنت تركض باستمرار نحو وجهة ما، معتقدا أن السعادة جائزة تنتظرك عند خط نهاية يستمر في التحرك”.

“أرجوك”، كنت سأقول، “للحظة واحدة فقط. توقف. انظر حولك. لاحظ طريقة تسلل أشعة شمس العصر عبر نافذة غرفة نومك. تذوق فعلا طعم القهوة التي ترتشفها على عجل وأنت تدرس للامتحان. استمع إلى صوت ضحكة صديقك المفضل السخيفة، أعني استمع إليها حقا، وخزنها في ذاكرتك. اشعر بالمتعة البسيطة والعميقة لحمام دافئ بعد يوم طويل”.

هذه اللحظات الصغيرة من الجمال هي ما تتكون منه الحياة فعلا. الإنجازات الكبيرة رائعة، هي قمم الجبال. لكن الرحلة هي ذلك الطريق الطويل المتعرج عبر الوادي، وهناك تقضي معظم وقتك. إذا لم تتعلم أن تجد الجمال في الوادي، فستقضي حياتك كلها منتظرا الوصول إلى القمة التالية.

المستقبل الذي تتلهف للوصول إليه سيأتي. وهل تعلم ماذا؟ ستظل أنت نفسك. سيكون لديك هموم جديدة، وأهداف جديدة، وخطوط نهاية جديدة. الشيء الوحيد الذي يتغير حقا هو قدرتك على أن تكون حاضرا في الحياة التي تعيشها فعلا، الآن. لذا، تعلم هذه المهارة مبكرا. تدرب عليها. إنها أقرب شيء إلى قوة خارقة ستمتلكها على الإطلاق.

إذن، ونحن نختتم هذه الرحلة القصيرة في آلة الزمن الذهنية هذه، يعود السؤال ليحط رحاله عندكم. إنه سؤال ثقيل، وجميل في آن معا. إذا جردت الأمر من نصائح الأسهم وتحذيرات الموضة، فما هي جوهرة الحكمة الوحيدة، الشعور الواحد، أو الإذن الواحد الذي كنت ستمنحه لتلك النسخة الأصغر منك؟ ما هي الهمسة الوحيدة التي كنت سترسلها عبر السنوات؟

شاركوها معنا. فكروا فيها، تأملوها بعمق، ثم ضعوها في التعليقات أدناه. لنخلق معا مكتبة جماعية من الحكمة، نسيجا من الهمسات لنسخنا الماضية. فقد تكون نصيحتك هي الشيء الذي يحتاج شخص آخر أن يسمعه اليوم.