اختر صفحة

كذبة الارض المسطحة: كيف خدعنا التاريخ لقرون؟

هل تخيلتم يوما بحارا شجاعا في العصور الوسطى، يقف على متن سفينته الخشبية، وقلبه يرتجف خوفا من أن يصل إلى حافة العالم ويسقط في فراغ سحيق تعيش فيه الوحوش؟ هذه الصورة الدرامية محفورة في أذهاننا جميعا. لكن، ماذا لو أخبرتكم أن هذه الصورة لا تمت للواقع بصلة؟ وأن فكرة أن البشر في العصور الوسطى كانوا يعتقدون بأن الارض المسطحة هي واحدة من أكبر الخدع في التاريخ الحديث؟ استعدوا، لأننا اليوم سنحطم هذه الأسطورة ونكشف الحقيقة المدهشة التي ظلت مخفية لقرون.

الإرث اليوناني: البداية الكروية

لنعد بالزمن إلى الوراء كثيرا، قبل العصور الوسطى بأكثر من ألف عام. في القرن السادس قبل الميلاد، في بلاد اليونان، كان هناك رجل يدعى فيثاغورس. نعم، صاحب النظرية الشهيرة في الرياضيات. فيثاغورس وأتباعه لم يكونوا مهتمين بالمثلثات فقط، بل كانوا من الأوائل الذين اقترحوا، لأسباب فلسفية وجمالية، أن الارض لا بد أن تكون كروية الشكل، لأن الكرة هي الشكل الأكثر كمالا. بعد ذلك بمائتي عام، جاء الفيلسوف العملاق أرسطو وقدم أدلة علمية ملموسة. لاحظ أرسطو أن السفن عندما تبتعد في البحر، تختفي تدريجيا من أسفل إلى أعلى، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان سطح البحر منحنيا. ولاحظ أيضا أن ظل الأرض على القمر أثناء الخسوف يكون دائما دائري الشكل، والشكل الوحيد الذي يلقي ظلا دائريا من جميع الزوايا هو الكرة. هذه ليست مجرد تخمينات، بل ملاحظات علمية دقيقة!

العصر الذهبي للإسلام: تأكيد وقياس

الآن لنقفز إلى العصر الذهبي للإسلام. هل يمكن أن نتخيل أن علماء بغداد ودمشق والقرطبة، الذين ترجموا كل أعمال اليونان وطوروها، قد تجاهلوا فكرة كروية الأرض؟ بالطبع لا! في الواقع، كانت كروية الأرض حقيقة مسلما بها لدى جميع علماء الفلك والجغرافيا المسلمين. الأمر لم يتوقف عند مجرد القبول بالفكرة، بل تجاوزوه إلى محاولة قياس محيط الأرض بدقة مذهلة. في عهد الخليفة العباسي المأمون في القرن التاسع الميلادي، أمر الخليفة فريقين من علماء الفلك بالذهاب إلى صحراء سنجار في العراق لقياس محيط الأرض. وقد توصلوا إلى نتيجة قريبة جدا من القياسات الحديثة، بخطأ لا يتجاوز بضعة نقاط مئوية. علماء مثل البيروني والخوارزمي لم يكتبوا فقط عن كروية الأرض، بل استخدموها كأساس لحساباتهم الفلكية ولتحديد اتجاه القبلة من أي مكان في العالم. هل هذا يبدو وكأنه فكر أناس يعتقدون بأنهم يعيشون على قرص مسطح؟

أوروبا في العصور الوسطى: ماذا كانوا يعتقدون حقا؟

حسنا، قد يقول قائل: “هذا في العالم الإسلامي المتقدم، لكن ماذا عن أوروبا المظلمة؟”. هنا تقبع الكذبة الكبرى. صحيح أن العصور الوسطى المبكرة في أوروبا شهدت تراجعا علميا مقارنة بالعالم الإسلامي، لكن فكرة كروية الأرض لم تختف أبدا. منذ القرن السابع، كتب الراهب الإنجليزي “بيدا الموقر” (Bede the Venerable) بوضوح عن كروية الأرض في أعماله، وشرح كيف أن هذه الكروية هي السبب في اختلاف طول النهار بين الشمال والجنوب. وبحلول العصور الوسطى العليا (High Middle Ages)، كانت كل الجامعات الناشئة في أوروبا تدرس كروية الأرض كحقيقة أساسية في علم الفلك. أعظم عقول تلك الفترة، مثل القديس توما الإكويني، كتبوا بوضوح أن الأرض كروية، واستشهدوا بأدلة أرسطو. إذا، إذا كان كل المتعلمين والعلماء والفلاسفة ورجال الدين البارزين يعرفون أن الأرض كروية، فمن أين جاءت هذه الأسطورة اللعينة؟

الولادة الحقيقية لأسطورة الأرض المسطحة

الجواب سيصدمكم: أسطورة الأرض المسطحة هي أسطورة حديثة جدا! لم تظهر بشكل واسع إلا في القرن التاسع عشر. نعم، قرأتم ذلك صحيحا. هناك شخصيتان رئيسيتان مسؤولتان عن نشر هذه الفكرة. الأول هو الكاتب الأمريكي واشنطن إيرفينغ (Washington Irving). في عام ١٨٢٨، نشر إيرفينغ كتابا يمزج الخيال بالتاريخ عن حياة كريستوفر كولومبوس. ولكي يجعل قصة كولومبوس أكثر بطولة وإثارة، اخترع مشهدا كاملا يصور فيه كولومبوس وهو يجادل لجنة من رجال الدين الجهلة الذين كانوا يصرون على أن الأرض مسطحة وأن سفنه ستسقط من حافتها. هذا المشهد خيالي بالكامل ولم يحدث أبدا! الجدال الحقيقي بين كولومبوس والخبراء لم يكن حول شكل الأرض، بل حول حجمها. كان كولومبوس يعتقد أن الأرض أصغر بكثير مما هي عليه في الواقع، ولذلك ظن أنه يستطيع الوصول إلى آسيا بالإبحار غربا. كان الخبراء على حق، وهو كان مخطئا! لولا وجود أمريكا “بالصدفة” في طريقه، لكان هلك هو وطاقمه في عرض البحر.

“صراع” العلم والدين: الوقود الذي أشعل الأسطورة

الشخصية الثانية، وربما الأكثر تأثيرا، هي جون وليام دريبر (John William Draper)، الذي نشر عام ١٨٧٤ كتابا بعنوان “تاريخ الصراع بين الدين والعلم”. في هذا الكتاب، جادل دريبر بأن الدين (خاصة الكنيسة الكاثوليكية) كان دائما قوة معرقلة للتقدم العلمي. ولتدعيم وجهة نظره، استخدم أسطورة الأرض المسطحة كمثال رئيسي، مدعيا أن الكنيسة فرضت هذه العقيدة الجاهلة على الناس لقرون. كانت هذه الفكرة جزءا من حركة فكرية أوسع في القرن التاسع عشر سعت إلى تصوير التاريخ على أنه صراع ثنائي بسيط بين “نور العلم” و “ظلام الإيمان”. لقد لاقت هذه الفكرة رواجا كبيرا لأنها كانت بسيطة وجذابة وتخدم أجندة معينة، وسرعان ما تسربت إلى الكتب المدرسية والثقافة الشعبية، حتى أصبحت “حقيقة” مسلما بها.

إذا، الأسطورة لم تكن عن جهل القدماء، بل عن غرور الحداثة. لقد أردنا أن نرى أنفسنا كقمة التقدم والعقلانية، ولذلك اخترعنا ماضيا مظلما وجاهلا لنقارن أنفسنا به. لقد أسأنا فهم أجدادنا، وصورناهم بصورة كاريكاتورية لا تستحقها عقولهم العظيمة.

والآن، بعد أن حطمنا هذه الأسطورة، يجب أن نسأل أنفسنا: ما هي “أكاذيب الأرض المسطحة” في عصرنا الحالي؟ ما هي الأفكار التي نتقبلها كحقائق دون تفكير، والتي قد يضحك منها أحفادنا في المستقبل؟ شاركونا أفكاركم في التعليقات!