كنز القياصرة المفقود: أين اختفت مكتبة إيفان الرهيب؟
ماذا لو قلت لكم إن تحت أقدام الملايين الذين يسيرون في الساحة الحمراء بموسكو كل يوم، قد يكون هناك كنز ثقافي يفوق قيمة كل جواهر الكرملين وتيجانه؟ كنز ليس من الذهب أو الألماس، بل من المعرفة الخالصة… من ورق البردي والرق الجلدي. آلاف المخطوطات والكتب التي لا تقدر بثمن، والتي تشكل معا أكبر لغز أدبي في التاريخ: لغز مكتبة إيفان الرهيب المفقودة.
من أين جاء الكنز؟ مهر من معرفة
لنعد بالزمن إلى القرن الخامس عشر. في عام ١٤٥٣، سقطت القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية العظيمة، في يد العثمانيين. كان حدثا غير وجه التاريخ، وأدى إلى فرار الكثير من علماء ونبلاء الإمبراطورية المنهارة. واحدة من هؤلاء كانت صوفيا باليولوجينا، ابنة أخي آخر إمبراطور بيزنطي. بعد سنوات من التشرد، وصلت صوفيا إلى موسكو لتتزوج من القيصر إيفان الثالث، جد إيفان الرهيب. لكن صوفيا لم تأت بمجرد فساتين وجواهر، تقول الأسطورة إنها جلبت معها أثمن ما تبقى من إرث أسرتها: كتبا! ليست أي كتب، بل صناديق خشبية تحتوي على مئات المخطوطات اليونانية واللاتينية النادرة، يقال إنها كانت جزءا من المكتبة الإمبراطورية في القسطنطينية. تخيلوا معي ماذا يعني هذا: أعمال مفقودة لأرسطو، حوارات لشيشرون لم يرها أحد منذ ألف عام، تاريخ ليفي الكامل، وربما حتى كتب من مكتبة الإسكندرية القديمة نجت بطريقة ما. لقد كان مهرها لموسكو كنزا من الفكر البشري.
إيفان الرهيب: الوريث والحارس الغامض
ننتقل بالزمن بضعة عقود إلى الأمام، لنصل إلى حفيدها، إيفان الرابع، أو كما يعرفه التاريخ: إيفان الرهيب. كان إيفان شخصية مركبة إلى حد جنوني. قائد دموي وحشي قتل ابنه بيده، وفي نفس الوقت، كان رجلا مثقفا تقيا، يمتلك ذاكرة فولاذية، ويتحدث عدة لغات، ويحب القراءة بشغف. يقال إنه ورث مكتبة جدته صوفيا واعتبرها أثمن ممتلكاته. ولم يكتف بذلك، بل أضاف إليها مخطوطات أخرى جمعها من كل أنحاء أوروبا والشرق. لكن إيفان، بجنون ارتيابه وخوفه الدائم من المؤامرات، كان يعلم أن هذا الكنز في خطر. ففي موسكو القديمة، المبنية من الخشب، كانت الحرائق أمرا معتادا ومدمرا. كما كان يخشى من الغزوات الأجنبية. لذلك، تقول الأسطورة إنه أمر ببناء قبو سري عميق تحت الكرملين، قبو مضاد للحريق والرطوبة، وأودع فيه مكتبته العظيمة. ولشدة سريته، يقال إنه أعدم المهندسين الذين بنوه حتى لا يفشوا مكانه أبدا.
همسات من الماضي: شهود أم ناسجو أساطير؟
هنا يتحول التاريخ إلى ضباب ويبدأ اللغز بالتشكل. هل هناك دليل حقيقي على وجود هذه المكتبة؟ هناك بعض “الشهادات” المثيرة. أشهرها قصة مكسيموس اليوناني، وهو راهب وعالم جاء إلى موسكو في أوائل القرن السادس عشر لترجمة النصوص الدينية. يقال إن القيصر أراه المكتبة ليبهره، وقد خرج مكسيموس مذهولا ووصف “عددا لا يحصى من الكتب اليونانية”. هناك أيضا قصة أخرى عن قس ألماني يدعى يوهانس فيترمان، ادعى أن إيفان الرهيب أخذه شخصيا لرؤية القبو وعرض عليه ترجمة بعض الكتب. لكن المشكلة أن معظم هذه الروايات إما منقولة عن أشخاص آخرين أو كتبت بعد عقود من الأحداث المزعومة. هل كانوا شهودا حقيقيين، أم أنهم كانوا يرددون شائعات منتشرة، أو ربما يضخمون الأمور قليلا؟ هذا هو قلب اللغز.
حمى البحث: من القيصر بطرس إلى ستالين
بعد وفاة إيفان واندلاع الفوضى في روسيا فيما عرف بـ”زمن المتاعب”، ضاع سر المكتبة تماما. إذا كان هناك أي شخص يعرف مكانها، فقد مات أو قتل في خضم الصراعات. لكن الأسطورة لم تمت. أصبحت المكتبة هوسا للكثيرين. يقال إن بطرس الأكبر، القيصر المصلح المهووس بالتقدم والمعرفة، أمر بعمليات بحث مكثفة عنها. وفي القرن التاسع عشر، قام عالم آثار يدعى إغناتيوس ستيليتسكي بتكريس حياته بالكامل للبحث عن المكتبة، مقتنعا بأنها موجودة تحت الكرملين. والغريب أن البحث لم يتوقف حتى في العهد السوفياتي. فالروايات تقول إن جوزيف ستالين نفسه كان مهتما بالأمر، وأنه كانت هناك حفريات سرية تجري تحت الكرملين في الخمسينيات. لكن النتيجة كانت دائما واحدة: لا شيء. قرون من البحث، ولا أثر لكتاب واحد.
أين يمكن أن تكون؟ نظريات بين المنطق والجنون
إذًا، إذا كانت المكتبة موجودة، فأين هي؟ هنا تبدأ المتعة الحقيقية. النظرية الأولى (والأكثر شيوعا): قبو في الكرملين. هذا هو الخيار المنطقي. الكرملين عبارة عن متاهة هائلة من أنفاق وممرات وأقبية بنيت على مدى قرون. من السهل جدا أن يكون هناك قبو قديم تم إغلاق مدخله ونسيانه تماما. قد تكون الكتب هناك حتى هذه اللحظة، منتظرة شخصا محظوظا ليعثر عليها. النظرية الثانية: لقد نقلت. إيفان الرهيب كان شخصا لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. ربما خشي حتى على قبوه السري، فقام بنقل المكتبة بسرية تامة إلى أحد قصوره الأخرى، مثل مدينة ألكساندروف أو فولوغدا. وهذا يجعل البحث أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش بحجم روسيا. النظرية الثالثة (والأكثر إحباطا): لقد دمرت. هذه هي الإجابة الواقعية المؤلمة. ربما لم ينج القبو من أحد الحرائق الهائلة التي اجتاحت موسكو، أو ربما تعرضت المكتبة للنهب والتدمير أثناء الغزو البولندي للكرملين في “زمن المتاعب”. النظرية الرابعة (المشككة): لم تكن موجودة أصلا. هناك من يرى أن القصة بأكملها مجرد أسطورة ضخمها القياصرة الروس لإعطاء موسكو هالة من القداسة والوراثة الثقافية لروما وبيزنطة، كجزء من فكرة “روما الثالثة”. ربما كانت لدى صوفيا بضعة عشرات من الكتب، ومع مرور الزمن، تحولت في الحكايات الشعبية إلى مكتبة أسطورية.
سواء كانت المكتبة حقيقة أم خيالا، فإنها تظل واحدة من أجمل ألغاز التاريخ وأكثرها رومانسية. إنها لغز عن القوة والهوس وضياع المعرفة. ربما ليس المهم أن نجدها، فالبحث عنها هو الكنز الحقيقي، لأنه يذكرنا بشغفنا الدائم باستعادة ما فقد من حكمة الماضي.
والآن، أترككم مع هذا السؤال: أي نظرية تميلون لتصديقها؟ هل المكتبة لا تزال تقبع في الظلام، منتظرة من يعيدها إلى النور؟ أم أنها مجرد حلم جميل وأسطورة ولدت من الطموح والرغبة في المعرفة؟ شاركونا آراءكم في التعليقات!