ماذا لو كانت أكبر كذبة وأكثرها إلحاحًا قيلت لك أو لكِ يومًا، هي كذبة تخبر/تخبرين بها نفسك كل يوم؟
أعرف أن هذه الافتتاحية ثقيلة بعض الشيء، ولكن تحملوني قليلًا. نحن في طريقنا إلى مكان مهم جدًا. كلنا لدينا هذا الصوت داخل رؤوسنا. أحيانًا يكون مرشدًا مفيدًا، بوصلة أخلاقية. ولكن في أحيان أخرى؟ يتحول إلى معرقل، ناقد، مشكك… أو كما نقول بالعامية، شخص “نقاق” (باللهجة اللبنانية والسورية) أو “بتاع تبكيت ضمير” (بالمصرية). يبدو كأنه يحمل شهادة دكتوراه في كل عيوبنا المتصورة وأخطاء ماضينا. هذه الحلقة تدور حول ذلك الصوت. إنها عن فهمه، ترويضه، وأخيرًا، خفض صوته لنتمكن من سماع الموسيقى التي كانت تعزف تحت كل هذه الضوضاء. هذه رحلتنا للتغلب على الشك بالذات، ليس بخوض حرب ضد أنفسنا، بل بتعلم الإيمان بتلك القوة الداخلية الهادئة والراسخة التي هي ببساطة… أنت وأنتِ.
الشريك في السكن الذي لم تدعه
لنكن صريحين، الشعور بالشك بالذات يبدو شخصيًا للغاية، أليس كذلك؟ نشعر بأنه عيب فريد يخصنا، عار سري نحمله وحدنا. ننظر إلى الآخرين—على وسائل التواصل الاجتماعي، في العمل، في عائلاتنا—ويبدو عليهم الثقة واليقين. كأنهم استلموا “كتالوج الحياة” الخاص بهم بينما ضاع كتيبنا في البريد. لكن هذه هي الحقيقة، الحقيقة المطلقة: ذلك الصوت، ذلك الشعور بـ”أنا لست كافيًا”، “سأفشل حتمًا”، “من أنا لأجرب هذا أصلًا؟”… هذا ليس فشلًا شخصيًا. إنه جزء من نظام التشغيل البشري. إنه من “التجهيزات الأساسية” التي تأتي مع عقد إيجارك لهذه الحياة، أو مثلما نقول “بيجي مع البكج”. إنه الشريك في السكن الذي لم تدعه قط، لكنه موجود.
من أين أتى هذا الشريك المزعج؟
إذًا، إذا كان الجميع يمتلكه، فمن أين أتى؟ لماذا نحن مبرمجون بهذه الطريقة؟
جزء من الإجابة يكمن في برمجة قديمة جدًا. فكروا في أسلافنا القدماء في سهول السافانا. الشخص الذي فكر، “يا إلهي، أراهن أنني أستطيع مداعبة ذلك النمر سيفي الأسنان!” على الأرجح لم يمرر جيناته للأجيال التالية. أما الشخص الذي فكر، “انتظر، أنياب كبيرة، مخالب حادة، ربما من الأفضل أن أبقى مختبئًا في هذا الكهف”، هو الذي نجا. الحذر، التردد، وجرعة صحية من “ماذا لو ساءت الأمور؟” كانت آليات للبقاء.
عقلك لا يحاول تخريب حلمك بفتح مقهى صغير أو مشروع أكل بيتي، بل يحاول منعك من أن يأكلك نمر مجازي. الوصف الوظيفي الأساسي لدماغنا، لآلاف السنين، كان “أبقِ هذا الإنسان حيًا”، وليس “ساعد هذا الإنسان على الازدهار والشعور بالرضا”. ببساطة، الوصف الوظيفي أصبح قديمًا بعض الشيء لعالمنا الحديث.
شبح إخفاقات الماضي
ثم هناك تاريخك الشخصي. دماغك هو مسجل دقيق جدًا للأحداث، وإن كان متحيزًا بعض الشيء. يتذكر تلك المرة في الصف الرابع الابتدائي عندما أخطأت في إعراب كلمة سهلة أمام كل الطلاب وضحكوا. يتذكر ذلك المشروع الذي فشل في العمل، تلك العلاقة التي انتهت، وتلك المرة التي جربت فيها هواية جديدة وشعرت بالارتباك والخرق. إنه يحتفظ بشريط “هايلايتس” لأخطائك وإخفاقاتك، ويحب أن يعرضه في حلقة مفرغة كلما كنت على وشك تجربة شيء جديد ومخيف.
هو لا يحاول أن يكون قاسيًا. إنه يحاول حمايتك. كأنه يقول: “تتذكر المرة الماضية؟ لقد تألمنا. دعنا لا نكرر ذلك. دعنا نبقَ هنا حيث الأمان، حيث نعرف التضاريس.” المشكلة هي أن “الأمان” هو نفس المكان الذي يعيش فيه الركود والجمود.
مرآة المقارنة المشوهة
وهنا نصل إلى السبب الأكبر، البنزين الذي يصب على نار الشك بالذات في القرن الحادي والعشرين: فخ المقارنة. نحن نعيش واقعنا الفوضوي المعقد، كواليس حياتنا، بينما نتصفح باستمرار شريط “الهايلايتس” المنسق لحياة الآخرين. نقارن فصلنا الأول بفصل شخص آخر العشرين. نرى صورتهم النهائية بعد التعديل (“After”) دون أي سياق لصورة “قبل” (“Before”) المليئة بالفوضى والتعب. نرى الترقية في العمل، ولكن لا نرى سنوات العمل حتى وقت متأخر. نرى إجازة العائلة المثالية، ولكن لا نرى الشجار الذي حدث في السيارة في الطريق إلى المطار.
وسائل التواصل الاجتماعي، والمجتمع ككل، يخلقان مرآة مشوهة. ننظر إليها، ثم ننظر إلى أنفسنا، ونفكر، “لماذا لا أصل إلى هذا المستوى؟” نحن نقارن لقطاتنا الخام بكل فوضاها وعفويتها، بإعلان فيلمهم النهائي المنتج والمنمق. وهذه لعبة لا يمكننا الفوز بها أبدًا. يعني بالعامي، “بنشوف الصورة النهائية ومننسى الكعبلة والتعب اللي صار ورا الكواليس.”
أعطِ ناقدك الداخلي اسمًا وقبعة سخيفة
إذًا، لدينا هذا الصوت، الذي ولد من غرائز البقاء القديمة، وتغذى على آلام الماضي، وشحن بقوة المقارنة الحديثة. ما الذي يمكننا فعله حيال ذلك؟
الخطوة الأولى، وقد تبدو غير منطقية، هي ألا تحاربه. عندما تتصارع مع شبح، فإنك تنهك نفسك فقط. عندما تجادل ناقدك الداخلي، فأنت تثبت أهميته وتمنحه مقعدًا على الطاولة. بدلًا من ذلك، دعنا نجرب شيئًا مختلفًا. دعنا نراقبه. نعترف بوجوده. وربما… نكون سخيفين بعض الشيء معه.
أريد منكم أن تجربوا هذا. في المرة القادمة التي يظهر فيها ذلك الصوت ويقول: “لا يمكنك فعل هذا، ستجعل من نفسك أضحوكة”، أريد منكم أن تفصلوه عنكم. أعطوه اسمًا. ليس اسمًا مخيفًا مثل “المدمر”، بل شيئًا عاديًا أو حتى سخيفًا. سمه “فوزي” أو “أبو العبد” أو “سعدية”.
تخيل شكل “فوزي”. ربما هو قزم صغير متذمر يحمل جدول بيانات، يحسب المخاطر باستمرار.
الآن، خذ الخطوة التالية. غير صوته. بدلًا من سماعه بنبرتك الداخلية الجادة والموثوقة، تخيل “فوزي” القزم يقولها بصوت حاد ورفيع. أو تخيل الكلمات تغنى على طريقة موال عراقي حزين. أو تخيل شخصية “بطوط” (Donald Duck) وهي تصرخ بأعمق مخاوفك. جملة “أنت لست مؤهلًا لهذه الوظيفة!” تبدو أقل ترهيبًا عندما تأتي من بطة كرتونية ترتدي زي بحار.
الهدف من هذا ليس الاستخفاف، بل خلق مسافة. هذا الصوت ليس أنت. إنه جزء من برمجة دماغك. إنها فكرة، وأنت المفكر في الفكرة، ولست الفكرة نفسها. بجعله سخيفًا، أنت تسلبه قوته. تحول الوحش المخيف تحت السرير إلى دمية جوارب مضحكة.
شكرًا على المشاركة، والآن اصمت من فضلك
إليكم طريقة أخرى قوية لإعادة الصياغة. بدلًا من محاربة الصوت، جرب أن تشكره. أعرف أن هذا يبدو جنونيًا. لماذا تشكر الشيء الذي يعيقك؟ لكن تذكر أصله. إنه يحاول حمايتك. إنه ذلك الحارس الأمني القديم المفرط في الحماس. لذا، عندما يظهر، جرب أن ترد عليه داخليًا بهدوء: “شكرًا لاهتمامك. أعرف أنك تحاول حمايتي. لكني مسيطر/مسيطرة على الوضع.”
الأمر يشبه وجود “سائق في المقعد الخلفي” يصرخ باستمرار، “فرمل! انتبه! أبطئ!” إذا صرخت في وجهه، “اسكت! أعرف كيف أقود!” ستخلق رحلة مليئة بالتوتر والفوضى. ولكن إذا قلت بهدوء، “أقدر اهتمامك بي. أنا أرى تلك السيارة أيضًا. أنا أتعامل مع الأمر”، فأنت تعترف بالمدخلات دون تسليم عجلة القيادة. أنت سائق حياتك. يمكن للناقد الداخلي أن يكون راكبًا، لكن لا يحق له لمس أدوات التحكم. الاعتراف به يجرده من سلاحه. أنت لا تقاتل، أنت تقود.
بناء قضيتك: سجل الأدلة
أدمغتنا لديها ما يسمى “الانحياز السلبي” (Negativity Bias). إنها غريزة البقاء القديمة مرة أخرى. نحن مبرمجون على الانتباه للتهديدات والسلبيات أكثر من الإيجابيات. يمكنك أن تتلقى عشرة مجاملات وانتقادًا واحدًا، وبماذا ستفكر مستيقظًا في الثانية صباحًا؟ بذلك الانتقاد الواحد.
شكك الذاتي يزدهر على هذا الانحياز. إنه ينسى بسهولة كل المرات التي نجحت فيها، كل التحديات التي تغلبت عليها، كل الأشياء التي فعلتها بشكل صحيح. لذا، يجب عليك أن تصبح جامعًا متعمدًا للأدلة التي تثبت العكس.
أريد منكم أن تبدؤوا “سجل الأدلة”. يمكن أن يكون دفترًا ورقيًا، ملفًا على الكمبيوتر، أو ملاحظة على الهاتف. أي شيء يناسبكم. وكل يوم، أريد منكم أن تكتبوا شيئًا واحدًا على الأقل—شيئًا واحدًا فقط—يثبت أن ناقدكم الداخلي على خطأ. هل تعاملت مع محادثة صعبة بلباقة؟ اكتبها. هل أنهيت تمرينًا رياضيًا حتى عندما أردت الاستسلام؟ اكتبها. هل تعلمت نغمة جديدة على الجيتار، أو أتقنت طبخة جديدة، أو جعلت زميلًا يضحك، أو حتى استطعت النهوض من السرير في يوم صعب؟ اكتبها.
في البداية، سيشعر هذا الأمر بالغرابة. سيقول دماغك، “هذا لا يحتسب، كان شيئًا تافهًا.” تجاهله. اكتبه على أي حال. مع مرور الوقت، ستبني جبلًا من الأدلة الواقعية التي لا يمكن إنكارها على كفاءتك، مرونتك، وقيمتك. وعندما يبدأ ناقدك الداخلي أسطوانته المعتادة، يمكنك أن تفتح “سجل الأدلة” ذهنيًا وتقول، “في الواقع يا فوزي، بياناتك تبدو غير مكتملة. دعنا نراجع الحقائق.” أنت لا تحارب المشاعر بالأحاسيس، بل تواجه الخيال بالحقائق.
قاعدة الخمس ثوان لخداع دماغك
الشك بالذات يخلق التردد. وفي فجوة التردد هذه، ينقض الناقد ويبني عشه. لديك فكرة، “يجب أن أتكلم في هذا الاجتماع.” ثم يأتي التوقف. “هل يجب أن أفعل؟ ماذا لو قلت شيئًا غبيًا؟ لا أحد يريد أن يسمع مني.” وبوم. ذهبت اللحظة. ضاعت الفرصة. فاز الشك.
علينا أن نتعلم إغلاق تلك الفجوة. واحدة من أقوى الأدوات لهذا تأتي من “ميل روبنز”، وتسمى “قاعدة الخمس ثوان”. المفهوم بسيط: في اللحظة التي تكون لديك فيها غريزة للعمل على هدف ما، يجب أن تتحرك جسديًا في غضون خمس ثوان، وإلا فإن دماغك سيقتل الفكرة.
إذًا، الفكرة هي “يجب أن أذهب للتحدث مع ذلك الشخص.” يبدأ دماغك في تحميل فيروس الشك. فتقوم أنت بالعد: “5… 4… 3… 2… 1…” وتتحرك. تخطو خطوة واحدة. تدير جسدك. تفعل شيئًا جسديًا لكسر نمط التردد وإطلاق نفسك في العمل.
لماذا تنجح هذه الطريقة؟ إنها شكل من أشكال ما وراء المعرفة (Metacognition)—طريقة لخداع حلقات العادات في دماغك. العد يشتت انتباهك عن الأعذار، يركزك على الهدف، ويدفعك إلى العمل. الفعل هو العدو اللدود للشك. الشك يزدهر في المياه الراكدة للتفكير المفرط. أما الفعل فهو تيار منعش يجرفه بعيدًا. لا يمكنك الخروج من الشك بالذات بالتفكير، بل عليك الخروج منه بالفعل. ولست بحاجة للشعور بالثقة لتتصرف. يمكنك التصرف وأنت تشعر بالرعب. الشجاعة ليست غياب الخوف، بل هي التصرف على الرغم من وجود الخوف.
استعادة كلمة “الفشل”
دعونا نتحدث عن الكلمة الممنوعة… الفشل. يستخدم الناقد الداخلي الخوف من الفشل كسلاحه الأساسي. يرفعه فوق رؤوسنا مثل المقصلة. ولكن ماذا لو غيرنا علاقتنا بالفشل تمامًا؟ ماذا لو لم يكن الفشل حكمًا على قيمتنا، بل مجرد… بيانات؟
عندما سئل توماس إديسون عن آلاف محاولاته الفاشلة لصنع مصباح كهربائي قابل للاستخدام، قال عبارته الشهيرة: “أنا لم أفشل. لقد وجدت للتو 10,000 طريقة لا تعمل.” لقد رأى كل “فشل” ليس كنهاية مسدودة، بل كدرجة في سلم النجاح. كانت معلومات توجه محاولته التالية.
سارة بليكلي، المليارديرة مؤسسة شركة “سبانكس” (Spanx)، تقول إن والدها كان يسألها هي وأخاها على مائدة العشاء كل أسبوع: “بماذا فشلتما هذا الأسبوع؟” إذا لم يكن لديهما ما يخبرانه به، كان يشعر بخيبة أمل. لقد علمهما أن غياب الفشل يعني غياب المحاولة. لقد أعاد صياغة الفشل كعلامة على النمو، على تخطي الحدود، وعلى عيش حياة كاملة ومثيرة.
عندما تجرب شيئًا ولا ينجح، لديك خيار. يمكنك أن تدع ناقدك الداخلي يقول: “أرأيت؟ لقد قلت لك. أنت فاشل.” أو يمكنك أن تقول: “مثير للاهتمام. هذه الطريقة لم تنجح. ماذا تعلمت؟ ما هي البيانات التي جمعتها؟ ماذا يمكنني أن أجرب بشكل مختلف في المرة القادمة؟” هذا التحول يحول كل عثرة إلى درس. يحول مصدر الخزي إلى مصدر حكمة. لا يوجد فشل، بل هناك فقط “تغذية راجعة” أو دروس مستفادة. قيمتك ليست في نتيجة أفعالك. قيمتك جوهرية وثابتة. المحاولة بحد ذاتها هي النصر.
الاعتناء بحديقة عقلك
تخيل أن عقلك حديقة. أفكارك هي البذور. إذا سمحت باستمرار بزراعة بذور الشك والسلبية والنقد، فما نوع الحديقة التي ستحصل عليها؟ ستحصل على حديقة مليئة بالأعشاب الضارة التي تخنق كل الزهور الجميلة. التغلب على الشك بالذات لا يقتصر فقط على اقتلاع الأعشاب الضارة، بل يتعلق بزراعة الزهور ورعايتها بفعالية. هذا يعني أن تكون انتقائيًا جدًا في مدخلاتك.
لمن تستمع؟ هل أصدقاؤك يرفعون من معنوياتك أم يحبطونك بمهارة؟ هل المحتوى الذي تستهلكه—البودكاست، الكتب، حسابات وسائل التواصل الاجتماعي—يجعلك تشعر بالإلهام أم بالنقص؟ يجب أن تكون حارسًا صارمًا لبوابة عقلك. يعني بالعامي، اعمل ‘unfollow’ للحسابات اللي بتشغل عندك ‘وحش المقارنة’. قلل وقتك مع الناس الذين “يشفطون طاقتك” واقض وقتًا أطول مع أولئك الذين “يرفعون معنوياتك”. استمع إلى بودكاست مثل هذا! اقرأ كتبًا توسع مداركك. شاهد فيديوهات تعلمك شيئًا جديدًا.
املأ حديقتك ببذور الإمكانية والتشجيع والقوة. عندما يكون عقلك مشبعًا بالرسائل الإيجابية والتمكينية، ببساطة لن يكون هناك حيز كبير للشك كي يتجذر. أنت ما تستهلكه، وهذا ينطبق على المعلومات والطاقة تمامًا كما ينطبق على الطعام.
قوة كلمة صغيرة مذهلة: “بعد”
هذه الأداة التالية بسيطة جدًا لدرجة أنها خادعة، لكن تأثيرها على مساراتك العصبية يمكن أن يكون عميقًا. إنها مجرد إضافة كلمة “بعد” في نهاية عبارات الشك الذاتي. هذا المفهوم مستوحى من عمل “كارول دويك” حول “عقلية النمو”.
إذًا، يقول الناقد الداخلي: “أنا لا أعرف كيف أفعل هذا.”
تضيف أنت الكلمة: “أنا لا أعرف كيف أفعل هذا… بعد.”
يقول الناقد: “أنا لست بارعًا في التحدث أمام الجمهور.”
تضيف أنت الكلمة: “أنا لست بارعًا في التحدث أمام الجمهور… بعد.”
“أنا لا أفهم هذا المفهوم.”
“…بعد.”
“لم أجد الحل لهذه المشكلة.”
“…بعد.”
هل تشعرون بذلك التحول الدقيق؟ كلمة واحدة صغيرة تحول عبارة نهائية ومسدودة إلى عبارة مؤقتة ومفعمة بالأمل. إنها تعيد صياغة الموقف من حالة ثابتة إلى نقطة على مسار رحلة. “لا أستطيع” هو جدار من الطوب. “لا أستطيع بعد” هو حاجز تتعلم كيف تقفز فوقه. إنها تفترض النجاح المستقبلي. إنها تلمح إلى النمو والتعلم والإمكانات. إنها خدعة لغوية تعيد برمجة دماغك على رؤية الإمكانيات.
الفعل الجذري للتعاطف مع الذات
قد يكون هذا هو الجزء الأهم في حديثنا كله. إنه القلب النابض الرقيق للقوة الداخلية الحقيقية. وهو الجزء الذي غالبًا ما نغفل عنه. يمكننا امتلاك كل الأدوات وإعادة الصياغة وخطط العمل… ولكن إذا واصلنا معاملة أنفسنا بقسوة ونقد، فسيجد الشك دائمًا طريقًا للعودة. الترياق النهائي للناقد الداخلي هو تنمية “مربٍ داخلي”. هذه هي ممارسة التعاطف مع الذات.
الدكتورة “كريستين نيف”، الباحثة الرائدة في هذا المجال، تقسم التعاطف مع الذات إلى ثلاثة مكونات أساسية:
أولًا، اللطف الذاتي مقابل الحكم الذاتي: هذا يعني معاملة نفسك بنفس الرعاية والاهتمام الذي تظهره لصديق مقرب. فكر في الأمر. لو أتاك أفضل أصدقائك، محطم القلب بعد فشله في شيء مهم، ماذا ستقول له؟ هل ستقول: “نعم، لقد خبصت الدنيا. يا لك من غبي. كنت أعرف أنك لا تستطيع”؟ بالطبع لا! ستقول: “يا إلهي، أنا آسف جدًا. هذا صعب للغاية. لا بأس. لقد بذلت قصارى جهدك. ماذا يمكننا أن نفعل الآن؟ أنا هنا من أجلك.” نحن بحاجة إلى أن نتعلم توجيه هذا الصوت المتعاطف إلى الداخل. بدلًا من جلد ذواتنا، نحتاج أن نتعلم كيف نمنح أنفسنا عناقًا.
ثانيًا، الإنسانية المشتركة مقابل العزلة: هذا هو الإدراك العميق بأن المعاناة والشعور بالنقص هما جزء من التجربة الإنسانية المشتركة. الشك بالذات يجعلك تشعر بالعزلة، وكأنك الوحيد. الإنسانية المشتركة هي الترياق. هي فهم أن الجميع، الجميع بلا استثناء، يشعرون بهذه الطريقة أحيانًا. الشخص الذي تعجب به أشد الإعجاب لديه لحظات من الشك المدمر. المدير التنفيذي، الفنان، الوالد الذي يبدو مثاليًا—كلهم يعانون. أنت لست وحدك في عدم كمالك. أن تكون إنسانًا يعني أن تكون معيبًا وتكافح. إدراك هذا يربطك بالآخرين بدلًا من أن يفصلك عنهم. أو كما يقول المثل العراقي الدارج “كلنا بالهوا سوا”، أو بالمثل السعودي “كلنا في مركب واحد”. هذا الشعور لم يعد علامة على انكسارك، بل هو علامة على إنسانيتك.
ثالثًا، اليقظة الذهنية مقابل التماهي المفرط: هذا يعود بنا إلى ما تحدثنا عنه سابقًا. اليقظة الذهنية هي القدرة على مراقبة أفكارنا ومشاعرنا المؤلمة دون أن نجرفنا. نحن لا نكبتها، لكننا لا ندعها تصبح واقعنا بأكمله. نلاحظ الفكرة، “أنا فاشل”، وبدلًا من أن نصبح هي، يمكننا أن نقول، “أنا لدي فكرة تقول إنني فاشل.” يمكننا أن نلاحظ شعور القلق في صدورنا دون أن ندعه يحدد كياننا بأكمله. إنه الفرق بين أن تكون عالقًا في عاصفة رعدية، وأن تشاهد العاصفة من نافذة آمنة ودافئة. أنت تعترف بوجود العاصفة، لكنك تعلم أنك لست العاصفة.
التعاطف مع الذات ليس لإعطاء نفسك الأعذار أو التملص من المسؤولية. إنه العكس تمامًا. لقد أظهرت الأبحاث أن الأشخاص الذين لديهم تعاطف أعلى مع الذات هم في الواقع أكثر حماسًا لتحسين أنفسهم وأكثر مرونة في مواجهة النكسات. لماذا؟ لأن بيئة داخلية آمنة وداعمة تجعل من المخاطرة والتعلم من الأخطاء أمرًا أقل إخافة. أنت لا تخاف من العقاب الذي ستنزله بنفسك إذا فشلت. أنت تعلم أنك إذا تعثرت، ستكون هناك يد لطيفة وحنونة لمساعدتك على النهوض. وهذه اليد هي يدك أنت.
ارتبط بـ “لماذا” أكبر من خوفك
في النهاية، قدرتنا على تجاوز الشك بالذات تتناسب طرديًا مع قوة “لماذا” الخاصة بنا. لماذا تريد أن تفعل هذا الشيء الذي يخيفك؟ لماذا تريد أن تبدأ المشروع، أو تطلب الترقية، أو تكتب الكتاب، أو تخوض تلك المحادثة الصعبة؟ إذا كانت “لماذا” خاصتك واهية، مثل “أريد أن أثير إعجاب الناس”، فسيفوز شكك. الخوف دافع قوي للبقاء في مكانك. يجب أن يكون سببك للمضي قدمًا أقوى منه.
ما هو السبب العميق، السبب الروحي؟ هل هو لتوفير حياة أفضل لأسرتك؟ هل هو للتعبير عن حقيقة إبداعية تشعر أنها ستنفجر منك إن لم تسمح لها بالخروج؟ هل هو لخدمة الآخرين بطريقة هادفة؟ هل هو لتكريم إمكاناتك ورؤية ما أنت قادر عليه حقًا؟
عندما تكون “لماذا” خاصتك تدور حول المساهمة، أو الحب، أو النمو، أو الخدمة—شيء أكبر من غرورك الشخصي—فإنها تصبح مصدر وقود يمكن أن يحترق بشكل ألمع من خوفك.
عندما يتسلل الشك، يمكنك إعادة الاتصال بـ “لماذا” تلك. يمكنك أن تقول، “نعم، أنا خائف/خائفة. لكن رغبتي في خلق مستقبل أكثر أمانًا لأطفالي أكبر من هذا الخوف. التزامي بمشاركة هذه الرسالة أهم من خوفي من حكم الآخرين.” “لماذا” الخاص بك يصبح نجمك القطبي (North Star)، الذي يرشدك عبر ضباب الشك.
السيمفونية التي لا يمكن لأحد سواك أن يعزفها
وهكذا نصل إلى النهاية. لقد رحلنا إلى أركان العقل المظلمة حيث يعيش الناقد، وأشعلنا الأنوار. رأينا أن هذا الصوت ليس وحشًا، بل حارس أمن مضلل. تعلمنا أن نسميه، ونشكره، ونجمع الأدلة ضده، ونتحرك قبل أن يشلنا. أعدنا صياغة الفشل كبيانات، واعتنينا بحدائق عقولنا، وتعلمنا الفن الجذري الرقيق للتعاطف مع الذات.
الإيمان بقوتك الداخلية ليس حدثًا لمرة واحدة. ليس مفتاحًا تضغط عليه. إنها ممارسة. إنه خيار يومي، وأحيانًا كل ساعة. إنه خيار الاستماع إلى همس الإمكانية بدلًا من صخب الشك. إنه خيار معاملة نفسك كصديق. إنه خيار اتخاذ خطوة صغيرة شجاعة أخرى.
حياتك هي معزوفة كبرى تتكشف فصولها. مواهبك، غرائبك، شغفك، تجاربك—كلها هي الآلات الموسيقية الفردية. لربما سمحت طويلًا للصوت النشاز للناقد الداخلي—ذلك الكمان الحاد الخارج عن اللحن—أن يطغى على كل شيء آخر. لكن بقية الأوركسترا كانت هناك طوال الوقت، تنتظر بصبر. تشيلو صمودك العميق. ناي إبداعك المحلق. إيقاع قلبك الثابت.
التغلب على الشك بالذات هو عملية أن تصبح المايسترو الخاص بمعزوفتك. إنه أن تقول بلطف لذلك الكمان الصارخ، “شكرًا لك، أسمعك، لكن حان الوقت لتعزف الآلات الأخرى.” إنه أن تبرز عن قصد أصوات قوتك، تعاطفك، وشجاعتك. إنه أن تخلق تناغمًا فريدًا ومذهلًا خاصًا بك. إنه أن تسمح أخيرًا للعالم بأن يسمع سيمفونية كيانك الجميلة، القوية، والفريدة من نوعها.
والآن، أريد أن أنقل الحديث إليكم. هذه رحلة نخوضها جميعًا معًا.
ما هو الدليل الواحد الذي يمكنك إضافته إلى “سجل الأدلة” الخاص بك/بكِ اليوم؟ ما هو الشيء الصغير الواحد الذي فعلته ويثبت أنك قادر/قادرة ومرن/مرنة؟
وما هو الاسم الطريف الذي ستطلقه/ستطلقينه على ناقدك الداخلي؟
شاركونا أفكاركم وآراءكم في التعليقات أدناه. دعونا نبني “سجل أدلة” جماعيًا هنا، ونذكر بعضنا البعض بأننا لسنا وحدنا في هذا. نحن قادرون على التغلب على هذا.